recent
أخبار ساخنة

تحالف بين شعبوية وفاشية.. مناخات مسمومة وخطابات تفرقة.. التجربة التونسية في مفترق حاسم..

Gala
الصفحة الرئيسية

 



علت وتيرة المزايدات السياسية والكلامية والمهاترات الجانبية والإثارة والفرقعات الإعلامية، والمعارك المفتعلة والشو (show) والتشويش والإرباك، وتاهت أولويات التونسيين وسط الخطابات الشعبوية والفاشية في عجز لافت على الفعل السياسي الناجز والمسؤول..


فبين الدعوات إلى حلّ البرلمان والدعوات التي يلتقي حولها أنصار الفاشية والشعبوية التقاء موضوعيا واستراتيجيا بل وتكتيكيا، إلى إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، وبين دعوات تغيير النظام السياسي، وبين دعوات التقسيم المجتمعي تتوه الأولويات وتتوه مصلحة الوطن وتتوه المعارك الحقيقية وسط أجندات أرباب “الشعبوية” وعرّابي “الفاشية” يلتقون ويتكاملون من أجل تزييف وعي التونسي وتوجيهه وفق منطق “من لم يؤيدنا ويوافقنا الرأي فليس من الشعب”.



والبعض بات يستغل آليات الشعبوية لإغراق الجميع في مستنقع الهوامش وترذيل السياسة. يتلاعبون بعواطف الناس وأفكارهم لغاياتهم السياسية، ويعتبرون أنفسهم هم الصوت الوطني الأصيل وممثلي المواطنين العاديين أو من يسمونهم “بالطبقات المنسيّة”.



إنها الشعبوية، الشعبوية في أجلى صورها هذه التي نعيشها اليوم.. شعبوية تقف بوجه الدولة والمؤسسات لتحل محلها، كما تقف بوجه كل النخب في المجتمع.. وأخطر ما فيها أنها حركة إلغائية لا تعترف بالآخر وتصبّ كل جهدها لإلغائه وتصفيته بكل الوسائل المتاحة.



إنها أحد أبرز أمراض الأنظمة الديمقراطية في واقعنا الراهن، وتقوم على سياسات وشعارات وحملات تحريض باسم “الشعب”، لكنها بالنتيجة تؤدي إلى تخريب الواقع السياسي والاجتماعي وإلى هدم مؤسسات الدولة. فالسياسات الشعبوية تريد تجاوز الدولة والدساتير والقوانين باسم إرادة شعبية مزعومة، وطبعا أبرز هذه النتائج الكارثية هي تهديم الدولة..


إن ما نعيشه اليوم هو محاولات متكررة لتحريك الجمهور عبر عاطفته المتطرفة، وبصناعة الأوهام، وفي ترهيب الشعب وتخويفه من أخطار داخلية وخارجية، وأحيانا يختلقون الخطر ليضعوا الناس في حالة رعب وتوجس دائم من المجهول..


إنّ أرباب الشعبوية المقيتة التي تعيشها تونس اليوم يحاولون ادعاء القرب من الشعب، أو اختزال الشعب فيهم، أي بشخصهم وبقيادتهم، عيّنوا أنفسهم ناطقين باسم الشعب، وحرّاسا على مصالحهم، وأوصياء على مستقبلهم، أو هم بمثابة الآباء الموكّلون على الناس.



لقد باتت الشعبوية أحد أشكال التطرف السياسي الذي نعيشه اليوم، وداء خطيرا كان ولا يزال يهدد المجتمعات في كل مكان، ويشكّل عائقا أمام تقدمها.. الشعبوية باتت تمثل اليوم خطرا على التجربة الديمقراطية التونسية وعلى مسارها، تشتغل في خطاباتها على التقسيم المجتمعي والتفرقة وشق الصفوف والتصنيفات، وعلى الثنائيات العقيمة التي تعمّق الجراح والخلافات والصراعات وتخلق مناخا يسوده التباغض والكراهية وانعدام الثقة بين التونسيين..


أصحاب مشاريع الشعبوية هدفهم الوحيد المعلن على الأقل اليوم، تسفيه البرلمان والانقلاب عليه، يتمعشون بالعربدة التي تمارسها عرابة الفاشية داخل البرلمان، وتعطيل فعاليّاته، وتستميل من أجل ذلك عناصر وقوى تحت القبّة دمّرها الفشل المتكرر، وأخرى لم يشبع نهمها قسمة الشعب، تريد المزيد ولو غصبا وتآمرا على المسار، وعناصر أخرى أعماها ارث أيديولوجي مقيت عطل كل قدرات على التمييز ووزن الأمور وباتت لا ترى أمامها إلا التخلص من خصم تقليدي عتيد ولو كانت الضريبة الانقلاب على المنجز الديمقراطي برمته..


وطبعا الوعاء الذي يصب فيه كل هؤلاء هو نظام حكم بعقليّة شموليّة تختزل جميع الصلاحيّات في شخص واحد..


هذا التيار الشعبوي الذي تمكن من قلب المعادلة السياسية وقدر أن يرسم ملامح عالم جديد، والذي هو اليوم في بداية تشكله، قد اتضحت من قبل حدوده وبانت خطورته على السلم والأمن العالميين وخطورته على العيش المشترك، والأهم من ذلك خطورته في هدم كل ما حققته البشرية على المستوى السياسي بعد مسيرة طويلة من المعاناة والصراعات حتى انتهت إلى ابتداع فكرة الديمقراطية بصفتها ثقافة وآلية لإدارة الصراعات بين الأفراد وإدارة الخلافات وتحقيق الانسجام والتكامل والعيش في إطار مجتمع موحد..


استعمال القوة وممارسة العنف لفرض أمر واقع أو وقف مسار مرفوض ولا يتماشى مع أهوائهم أو مصالحهم، مشروع..  ولعل ما حصل منذ أيام أمام الكونغرس الأمريكي من اقتحام لأنصار الرئيس دونلد ترامب المنتهية ولايته، وممارستهم العنف المسلح ورفضهم نتائج الانتخابات الرئاسية التي أقرت بفوز جون بايدن وهزيمة ترامب هو دليل واضح على الخطورة الكبيرة التي تشكلها الشعبوية على الحياة الديمقراطية فهذا الفكر الذي نجد له صدى في بلادنا ينهل من الفكر الفوضوي والفكر العدمي وهو فكر لا يعترف بأي شيء غير نظرته ورؤيته للأمور وللأحداث.



والأخطر من كل ذلك أن الشعبوية متى وصلت إلى الحكم والسلطة فإنها توظف كل الآليات من أجل دوام بقائها وهي تعمل على تجميع السلطة في يدها ولا تقبل بتشريك أي جهة معها فغايتها ليست المجموعة الوطنية وإنما غايتها الوحيدة الاستحواذ والسيطرة على الحكم وهذا ما يفسر عدم قبول ترامب بالهزيمة في الانتخابات وتصريحه بأنه لن يسلّم الحكم ولن يخرج من البيت الأبيض .



إن الشعبوية لا تنضبط لأي سلطة ولا تحترم أي تشريع ولا تحتكم لأي قانون إلا لسلطة الاستقواء بالشارع وفرض الرأي بالقوة حتى وإن لزم الأمر هدم كامل الهيكل وتخريب كل شيء.. فالديمقراطية والأحزاب والدستور والانتخابات لا قيمة لها أمام مصلحة الفرد الشمولي وطالما أن هذه الآليات وهذه الوسائل لا تضمن لها البقاء في الحكم والسلطة فإن الفوضى هي الحل للوصول إلى الخلاص الذي تبشر به الشعبوية.

 


مشروع الشعبوية هذا يلتقي للأسف موضوعيا وتكتيكيا مع مشروع آخر لا يقل خطورة وهددا عنه، مشروع يحاول أن يمضي بسرعة فائقة نحو هدفه المعلن.. هذا المشروع هو مشروع الفاشية، الفاشية التي تحضر بقوة في البرلمان اليوم وتستنفر كل أسلحتها من أجل تحقيق مخططها الذي فوضت من أجله..


فاشية تعمل على هرسلة البرلمان وترذيله وتشويه صورته، واستقطاب شرائح الاستئصال ثمّ الشرائح العبثيّة ثمّ شرائح الإحباط والفشل، وقد نجح في ذلك إلى حدّ بعيد، وباتت تسحب الكلّ نحو أجندتها، وطبعا هي ترنو إلى أن يتوج مخططها هذا بحلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها، أعطتهم الأرقام الزرقونية فيها مرتبة متمايزة عن البقية بفوارق كبيرة..


ولمن لا يعرف الفاشية، هي خلاصة فكر ومنهج يؤمن بأن القوة وحدها هي وسيلة فرض القانون وترسيخ أركان النظام وليست إرادة الشعب..  هي خلاصة فكر يؤمن بأن النقد لا يبني، بل يتسبّب في التفرقة، لذلك تعمل بكل الوسائل على إقصاء كل ما يتمايز معها أو يعارضها، بعكس المجتمع الحديث الذي يشيد بالخلاف باعتباره وسيلة لتطوير المعرفة.



المطلب الأول لأي حركة فاشية هو اضطهاد المختلفين، وهي كما يتحدث عنها أمبيرتو إيكو  “تهيمن عليها روح الجمود والتعصب والعنصرية، إذ تدور معظم الصفات حول رفض الآخر، سواء كان آخر مختلفا في الجنس أو الفكر، بالإضافة إلى تقديس القوة ورفض أي مظهر ضعف، وكذلك رفض أي فرصة لإحلال السلام مع العدوّ”.



وهذه كلها صفات تقوض كل حظوظ إقامة دولة ديمقراطية ومتقدمة، تقوم على التسامح والعدل والمساواة وتقبل الآخر، وتسعى للتطور المستمر واحتضان الحداثة.



خط رفيع جدّا يفصل بين الفاشية والديكتاتورية، فإن كانت الديكتاتورية هي ممارسة القمع لأهداف سياسية، فإن الفاشية هي الديكتاتورية بتأييد بعض أفراد الشعب، ولا شك أن الفاشية تعد أسوأ بكثير من الديكتاتورية..


وهنا لا نحتاج لكثير من الذكاء والتمحيص لنلاحظ النقاط والخصائص الكثيرة المشتركة بين الشعبوية والفاشية، فكليهما يرفض الديمقراطية البرلمانية والتعددية السياسية ويسعى إلى تعويضها بنظام شمولي استبدادي يُشكّل زعيم واحد نواته الصلبة ومصدر السلطات فيه، حيث يعطي كليهما السلطة التنفيذية أفضلية كبيرة على حساب بقية السلط الأخرى. وتقوم أيديولوجيتهما على تبجيل هيبة الدولة والقائد والتركيز على التعصب..


كما تشتركان في التسوّيق لفكرة وجود عدوّ خارجي وداخلي، والسعي إلى تأجيج الخوف مِن الاختلاف ومِن الدُخلاء (كل من يعارضها أو يتمايز عنها) ليكون ذلك حافزا لفرض أجندتها الاستبدادية، وبمجرد وصول أي منهما إلى السلطة يلغون الأحزاب والمنظمات النقابية ويمنعون كل نشاط يتعارض معهم ويقمعون كل خصومهم ويُنصبّون أنفسهم القادة الأُحدان.


المصدر

Related Posts

google-playkhamsatmostaqltradent